الأستاذ محمد علي الربادي المعلم والمربِّي

فتحنا أعيننا على طلعته المهابة، وآذاننا على صوته القوي المجلجل والمؤثر، والجميل، وهو يعلمنا أصول الدين والفقه والأدب وقواعد الحساب، في حزر الجامع الكبير بإب (جامع عمر بن الخطاب)، في السنوات الأربع التي سبقت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، وقد كان، مع زميله الراحل الأستاذ محمد زين العودي لا يبخلان باقتطاع جزء من الوقت للتربية الوطنية ونبذة من التاريخ، والجغرافيا، والتي كان يحرم تدريسها، وذلك التفافًا على وزارة المعارف التي كانت ترسل المراقبين، الذين كنا نسميهم (الكباسية)، أي عائلة الكبسي. كان حينذاك لا يزال فتياً، اكتسب للتو شهرة كبيرة من خطبته الارتجالية، التاريخية، الأولى التي ألقاها بدون استئذان في حفل كان يقام هناك بمناسبة ذكرى (الغدير)، تعرض فيها لفضل آل البيت ونقد مظاهر الغلو في الدين سواء من الجانب الشيعي أو السني وأشاد بسماحة الإسلام واستيعابه لمفهوم الاختلاف الذي أساسه الرحمة وليس الخلاف الذي يعني الشقاق، وقد لفت أذهان الحاضرين جميعاً. كانت قد ظهرت علامات النجابة والنبوغ على الأستاذ الراحل منذ نعومة أظفاره، لدرجة أنه كان يلقب في صباه (محمد ذكي)، مولده كان تقريبًا في 1347هـ… وتعليمه الأولي تلقاه فيما كان يسمى المكتب. ولم يقتصر تعليمه على المتاح، بل انكفأ على التعليم الذاتي حتى صار علمًا، وخطيباً في الجامع الكبير، وفي كل المناسبات الوطنية في عموم الوطن اليمني منذ قيام الثورة وحتى رحيله في عام 1994م بعد أن تقلد عدة مناصب ومنها رئيساً لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين وعضواً بارزاً في مجلس النواب. أخلاقه وشمائله هي أكثر من أن توصف، فقد مثل نموذجًا للشرف والاستقامة وعلو الهمة والتواضع، ولم يتنازل قط للمغريات المعروضة له من جهاز الحكم، شعاره الدائم (وجدتُ القناعة كنز الغنى ..الخ) وأما علومه التي احتواها عقله الواسع فهي أكثر من أن تحتويها المتون والمجلدات، والتي لم يدونها قط، وقد كان ذلك عيبه الوحيد، وكان يعترف به، فقد نشأ عقله على الإرتجال والتحدي المباشر ومواجهة الموقف الطارئ، الذي يلهب أحاسيسه فيندفع كالبحر الجرار ولا يبالي حينها بالنتائج، ولا يخاف لومة لائم، وكان مع ذلك جمّ الأدب، متواضعاً لا تخطر على لسانه كلمة جارحة أو نابية أو مؤذية، وتلك كانت الصفة التي تخصه وحده، حتى في حالة الغضب. وهنا نؤكد أن العيب لم يكن عيبه وحده، وإنما عيبنا نحن جميعاً، ومن كانوا حوله، حيث لم نقم بتدوين أفكاره ومحاضراته وخطبه، وكأنه كان سيعيش لنا مدى الدهر. لكن ما يشفع عن ذلك كله، أن الأستاذ المرحوم قد تمكن فعلاً من غرس أفكاره الوطنية والتنويرية في ثقافة جيل كامل، وخصوصاً الرعيل الأول من الثورة، ومثلت آراؤه بالنسبة لنا، وإلى الآن مرجعية كاملة، تعتمد على الوسطية الدينية، في النهج والاتباع، والعقائد الفلسفية والأفكار الحزبية، معاييره كانت: هي الحق.. والباطل، الحلال.. والحرام الذي ورد فيه النص، الخير.. والشر، العلم.. والعقل، والمنطق. متأثراً كان بأدب المعتزلة، وكان يثمن أعمال المفكر الفقيه العلامة ابن رشد، وكان يوصي دائماً بالأخذ بمقاصد الشريعة، كما يوصي بتدريسها، وفتح كلية خاصة لذلك، أي أنه كان ما أستطيع أن أسميه (الفارس – الفقيه). كما أود أن أسجل هنا أنه لم يكن ملتزماً لأي حزب على الإطلاق، لكنه كان مُلمًّا بجميع أفكار الأحزاب المتواجدة في الساحة، ويحترم الرأي والرأي الآخر بقناعة وإنصاف، باحثاً عن الحقيقة، أنى وجدها. وكان حريصاً على الالتقاء بالشباب المتعلم والمتخرج في شتى فروع العلم باستمرار، وكان يحضر مجلسه ومقيله العديد منهم، بل وقد كان السبب في اكتشاف مواهبهم المتنوعة، والدفع بهم للسفر للخارج، لدرجة أنه جعل من فندق صنعاء بالعاصمة في فترة من الفترات، مقراً له ليكون بالقرب من إدارة البعثات لتسهيل معاملاتهم وتحرير الضمانات اللازمة على مسئوليته، واستمر على ذلك أعوامًا عديدة، فلم يكن يشغل ذهنه شيء أكثر من العلم والتعليم والحصول على أعلى الدرجات العلمية. من احتكاكي الدائم، والملاصق له، أود الاعتراف بأنني أدين له، ولوالدي رحمهما الله، بثقافتي الشخصية (وقد كانا صديقين حميمين منذ ما قبل الثورة) بثقافتي الشخصية ونهجي في الأدب والشعر وأشعر دائماً، أنني لا أكتب إلا ما كانا يشعران به، أو ما كانا يريدان أن يقولاه، رحمهما الله رحمة الأبرار، وأسكنهما فسيح جناته. وأتذكر في طفولتي أي قبل الثورة أنهما كانا يخرجان خلسةً، بعد المغرب، ومعهما كتاب عنوانه (الإسلام الصحيح) لأحد الكتاب اللبنانيين، ليقرءاه في مكانٍ ما، حيث كان محرماً قراءة مثل هذه الكتب. تنبهتُ في الفترة الأخيرة، قبل وفاة الأستاذ المرحوم، أن أدون بعض أفكاره أثناء مناقشاتنا اليومية، بمجموعة أشعار حوارية، سميتها (بيني وبينك)، سأحاول نشرها تباعًا، ولعلها قد تعطي طرفًا عن عمق ثقافة هذا الرجل العظيم ومدرسته الفكرية الخالدة. وفق الله الجميع والسلام عليكم.

د.عبد الكريم الشويطر

م6/2/2013

موقع د.عبد الكريم الشويطر

تم تصميم الموقع لغرض الاحتفاظ والتوثيق لكافة أعمال د.عبدالكريم الشويطر

معلومات

صنعاء-إب

1971

راسلنا عبر:

mohammednajibalkainae@gmail.com

تاريخ التطوير

2025

جميع الحقوق محفوظة@