الأُنس ينفجر، والصمت يدمر
ما حدث في تونس، ذلك البلد الجميل والحميم، المؤنس الذي يؤنس الكئيب ويواسي المهموم، كان ثورة كاسحة قام بها شباب العشرينات والثلاثينات بهدم الطغيان والاستبداد، وطرد أحد الطغاة الجدد المتمدنين (أو كما يظنون)، وهو “زين الهاربين بن علي” الذي اعتمر البدلة العصرية والكرافتة، كغيره، كي يفتن بها هذا الجيل المتطلع للحضارة والمتعطش للنهضة. هذا الذي حصل أمر جلل وحدث تاريخي كبير، لا بد أن يكون منعطفًا واضحًا في ثقافة الأمة العربية خصوصًا، والشعوب النامية عمومًا. ولا بد أن يكون فاتحة لأحداث مماثلة تشبهه أو تقترب من شبهه. ولا أدل على ذلك مما حدث بعدها بقليل في مصر، قلب العروبة، وعاصمة التاريخ، والتي راهن العديد منا أنها لن تثور أبدًا. فهي شعب مسالم، وأريحي، يهوى الطرب والغناء والنكتة، وتأتلف فيه الطبقات من أعلاها إلى أدناها بمودة ورضا وقناعة، كما رسخ ذلك طويلا في أذهاننا نحن الكبار.
ومن ذلك كله نستنتج الأفكار الآتية:
فلنشعر بالفخر بهذا الشباب الصاعد، ونتمنى له المزيد من الصحو والتحدي حتى يصل إلى ما يريد هو، لا ما نريد نحن. ولتقـرّ أعيننا بأن هذا الجيل لم تحركه الفيس بوك والتويتر وغيرها بقدر ما حركته الثقافات العالمية، الإنسانية، التي جعلتها ثورة الاتصال تدخل إلى كل منزل، ويصبح العالم قرية واحدة. وبقدر ما تحركت وانتقضت في أعماقه الذات والهوية العربية والإسلامية، وما غرسناه في عقله الصغير من شموخ وإباء.
ثقافتنا: أي ثقافة الستينات والسبعينات، الخارجة قريبًا من الاحتكاك بالاستعمار، ومشبعة بصور مطبوعة في الذاكرة عن هذا المستعمر الذي يتمتع بقدرات إبداعية خلاقة، والذي قطع شوطًا بعيدًا في نضاله من أجل الحرية والتقدم إلى الحد الذي نعجز تمامًا عن مجاراته أو اللحاق به. كل ذلك أدى بنا إلى حالة الانبهار المستمر والوقوع في براثن الفصام الثقافي العنيد والتذبذب بين الجديد والقديم إلى حد الإحباط.
هذه الأحداث كشفت القناع عن ثقافتنا الهشة (نحن الكبار)، وعن عقولنا التي لا تقرأ إلا الماضي، ولا تلتفت إلى الحاضر، ولا تفهم المستقبل أو فلنقل لا يهمها. ولهذا كنا نحن أول المنبهرين، وكأن معجزة تتحقق، وأن جيلًا من أبنائنا الذين حصلوا على عناية منا تفوق ما حصلنا عليه نحن من آبائنا، والفسحة الديمقراطية الممسوخة التي أكرمناهم بها، إنما جعلت منهم جيلًا مستهلكًا لا تعنيه إلا المتعة والاقتناء، ولا يعطي للوقت حقه من الاهتمام. هذا الجيل الذي لا ترجى منه فائدة، وبدأنا نضرب أخماسًا في أسداس عن مستقبله الضائع لأنه لم يتبع أفكارنا، وكذلك تقصيرنا نحوه حين لم نجد الوقت الكافي لملازمته والاستمرار في توجيهه، وتبيين ما هو الحلال والحرام، وما هو النافع والضار.
هذه الإنبعاثة التي كشفت الأحداث عن ساقيها وأثبتت أننا الأقل حظًا من الثقافة، وأن رؤيتنا أقصر من القصيرة، وأننا لم نفهم أبناءنا بعد حتى وجدناهم يبذلون أرواحهم ويسقطون شهداء في سبيل ما آمنوا به واقتنعوا بضرورة تغييره.
بكيتك يا بني بدمع عيني فلَم يُغنِ البكا عليّ شيئا
وكانت في حياتك لي عظات، وأنت اليوم أوعظ منك حيًا
وهنا بدأنا نحلل، بنفس أسلوب التفكير الذي أدمناه، وقلنا: “هذا جيل الإنترنت”، الذي كنا نتخيل أنه أدمن على هذه الوسائل بحثًا عن المتعة وهروبًا من الواقع! وعندها تذكرنا قول الإمام علي كرم الله وجهه: “علموا أولادكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم.”
بعيدًا عن الاستمرار في تعنيف الذات، واجترار مرارة الإحباط، فلنسلم أن التلميذ قد يفوق أستاذه، وأن الابن قد يعود فيعلم أباه.
وحب للكرامة والعــدالة والحرية والسلام
م31/1/2010
د.عبد الكريم الشويطر
تم تصميم الموقع لغرض الاحتفاظ والتوثيق لكافة أعمال د.عبدالكريم الشويطر
معلومات
صنعاء-إب
1971
راسلنا عبر:
mohammednajibalkainae@gmail.com
تاريخ التطوير
2025
جميع الحقوق محفوظة@