رأي في الصوفية والتصوف

لا شك أن الإنسان، ومنذ فجر الخليقة، يبحث عن دليل محسوس يرشده إلى الخالق، جلَّ وعلا، الذي لا يزال يثور في أعماقه شعور قوي غريزي بوجوده، وذلك من استقرائه للكون المحيط به، وما حوله من كائنات، وإبداع صنعها وتكوينها، حتى قصور بعض خصائصها التي تتطلب التسليم بوجود الكمال، ومن ثم وجود صانع حكيم منزه عن النقائص والعيوب، ويدير دفة هذا الكون المترامي، والبالغ الدقة في التقدير والنظام.

ولما جاءت الأديان السماوية، ومنها ما نزل على قوم من الأقوام محدودين بجغرافية المكان وبزمن محدد، فقد جاءت تدعو إلى توحيد الخالق، وتقديس الإله الذي في السماوات العلى، وكذلك جاء الإسلام، الدين الخاتم، ليؤكد صحة تلك الرسالات ويكون مهيمناً عليها لاعتبار ما حدث لها من تحريف وإبدال. كما يلزم بصورة الإيمان بها.

وقد دخل الناس في دين الله أفواجًا، خلال ذلك كله، وإن بدرجات متفاوتة من الإيمان، وما ذلك إلا لأمرٍ شخصي يعود من ناحية إلى فطرة الإنسان التي خلق بها، ومن ناحية أخرى إلى الثقافة والقدرة العقلية التي تختلف من شخص لآخر ومن زمن لآخر أيضًا. إضافة إلى ذلك، فكل إيمان لابد أن يحمل في جزءٍ منه غيبًا، وإلا لما سمي بذلك.

ومن هنا قد يتبادر للذهن الجوع إلى الله وقت الشدائد والمحن، وزيادة الإقبال على الصلاة والدعاء والاستغفار. بصفة موازية كان هناك فكر بشري يقوم على الفلسفة، والبحث عن دلائل منطقية ومادية تؤكد علاقة الخلق بالخالق، وربما قد تبني لنفسها قناعات خاصة، يلتف حولها عدد من المريدين. كثير من هذه المدارس تنهل من بعضها البعض وتتأثر إلى حد ما بما سبقها، ومقتربة أحيانًا من هذا الجزء الغيبي، وأحيانًا مبتعدة عنه.

ومن ذلك الفكر الصوفي الذي وجد له بعد الإسلام منفذًا في الأصول الفلسفية القديمة، يبني عليها، التي تمتد إلى الفكر الفيثاغورثي والمثالية الأفلاطونية التي طلت إلى قبيل الإسلام، تشكل أساس الفكر الغنوصي المقترن بأساطير الأولين والفكر المانوي والزرادشتي والديانات الهندية القديمة بالذات. حاكاه في ذلك عصر وافد الفكر الباطني والشيعي، الذي رحل خلف حدود المجاز اللغوي إلى التأويل.

وما تبع ذلك من اختلافات مذهبية كانت جوهر الصراع على السلطة والمال والنفوذ خلال العصور الإسلامية السابقة، والتي أشعلت الحروب والفتن، وجرت وراءها التنكيل والدمار، وانتقال الإسلام الروحي من جوهره إلى الإسلام السياسي الذي يراه كل بمنظاره الخاص.

على ضوء ما تقدم، ندرك كيف تبلور الفكر الصوفي في منتصف القرن الثاني الهجري، كما يرجح أن أول من نسب إليه هذا الاسم هو أبو هاشم الكوفي المتوفى عام 150هـ. ولا داعي للبحث في سبب التسمية. الحديث عن التصوف والافتراق الصوفي ابتدأ من هذه المرحلة الهامة، الخارجة من مرحلة الفتنة الكبرى، يشير إلى أهمية ظهور جماعة أو طائفة تقرر الهروب بدينها بعيدًا عن سفك الدماء وظواهر التكفير المتعددة الأشكال والوجوه، وتريد إرساء المزيد من القناعة بوجود هذا التلابس من جهة، ومن جهة أخرى، وبعد التداخل مع الثقافات الأخرى أثناء الفتح الإسلامي الكبير، تحاول العمل على إظهار الحقيقة الجوهرية للوجود والخلق وعلاقة الخلق بالخالق على ضوء ما جاء به الدين الإسلامي، والدفاع عنه أمام المتكلمين والمتفلسفين الأجانب.

وبدون التهافت على الصوفية التي سرعان ما دخل عليها من الدجل والشعوذة والابتزاز لعواطف الضعفاء والمساكين، وبناء النفوذ والحظوة على أكتافهم، وبغض النظر عن التأييد والمعارضة، هناك نقاط تتعلق بالصوفية التي ظهرت في الشرق العربي على إثر تنوير الإسلام للفكر والعودة إلى التأمل والتفكير، وعلى إثر اصطدام الفكر العربي الذي لم يكن يحمل مسمى مثل هذا، اصطدامه بالثقافات والديانات الأخرى، ومرافق تلك الحركات من ظروف هيأته وساعدت على نشره.

م15/5/2009

د.عبد الكريم الشويطر

موقع د.عبد الكريم الشويطر

تم تصميم الموقع لغرض الاحتفاظ والتوثيق لكافة أعمال د.عبدالكريم الشويطر

معلومات

صنعاء-إب

1971

راسلنا عبر:

mohammednajibalkainae@gmail.com

تاريخ التطوير

2025

جميع الحقوق محفوظة@